الأحد، 8 مايو 2016

نجمة سداسية ... بقلم الأديب / محمود عودة ..

نجمة سداسية
يلاحقه كظله أينما حل ، يوسوس له بكلمات فيها إغراءات متعددة ، وهو يصر على رفض عروضه المغلفة بالأموال ، فلم يرتح لمنظره رغم الهيئة الأنيقة التي تدثره إلا أن لحيته الكثة تزعجه وتجعله يجفل من عروضه كفرس تجمح من وخزة كعب ، منذ تخرجه من الجامعة يبحث بلا كلل عن عمل يتناسب مع مؤهله ولكن عجزه دفعه إلى العمل في كل عمل يجده بلا غضاضة ، يعود يوميا إلى والدته المنحنية باجتهاد على ماكينة الحياكة ، تقوس ظهرها وضحك سم الخياط من بصرها وهو يتضاءل ببطء ، يلومها ويطلب منها الاستراحة
ويكذب بقوله أنه حصل على عمل وبراتب يكفيهم شظف العيش ، غزت جوانب مقلتيها غمامة بيضاء أقلقته مما جعله يصر على تركها الحياكة التي ربته وأوصلته إلى الجامعة ، منذ وفاة والده فجأة وهو لا يزال في أحضان الرضاعة ، تكفلت والدته بتربيته رافضة كل عروض الزواج وهي ما تزال شابة يانعة ، لم تصغ لولدها، وأصرت على الاستمرار في عملها إحساس قوي يقول لها بأن ولدها يكذب ولم يجد العمل المناسب ، إرهاقه الذي يبدو على وجهه يشي لها بذلك ، اتسعت الغمامة البيضاء لتملأ مقلتيها ، ارتبك ولدها واستشاط غضباً ورعباً وهو يراها تتحسس رأس ماكينتها وتتجسس بيديها الممدودتين طريقها إلى مرقدها ، حملها عنوة إلى الطبيب، ارتبك وشحب وجهه واصفرت مقلتاه وهو يستمع إلى الطبيب ، تحتاج عملية سريعة لإزالة المياه البيضاء قبل أن تصاب بالعمى الكامل ، دارت به الدنيا وكاد أن يسقط أرضا قبل أن يتهاوى على أقرب مقعد ، لمجرد سماعه رقم تكلفة العملية ، عاد بها إلى البيت يجر أذيال عجزه ، ويغرق في حيرته ، ويتمتم بالبسملة والحوقلة ، ذهنه شارد يحلق في سماء الفقر المدقع والعمل المضني بقروش قليلة بالكاد تكفي مصروفه ، طرق بالباب ، جرجر قدميه المثقلتين ليفتح الباب ، إنه هو ، كيف عرف بما أصاب والدته ، لم يطل تعجبه فقد قدم له رزمة من الأوراق المالية وهويبتسم بخبث قائلاً : لا ترفض فأنت بحاجة لها قبل أن تصاب والدتك بالعمى ، لم يجد ما يقوله سوى دهشته ووجهه المكفهر وفاه الفاغر ، وهذا الرجل الذي يلاصقه أينما حل ومنذ مدة يقول له : لو استمعت لي من البداية ما كان يحدث لأمك هذا المرض .. والآن مد يدك وخذ النقود ، ولكن يجب أن توقع على عقد العمل مع استعدادك للسفر إلى جهة العمل بعد شفاء والدتك ، تردد كثيراً قبل أن يأخذ المال ويوقع العقد ، فهو لم يعرف طبيعة العمل ولا حتى جهته وقد رفض هذا الضيف الثقيل أن يوضحه ويقول ستعرف في حينه.
وجد نفسه محاطاً بجمع من الرجال الملثمين بملا بس سود ولحى كثيفة وشعر رأس طويل يحتاج التجديل ، يمتشق كل منهم سلاحاً ، وقد رحب به الجميع ، نظر حوله لم يعرف أحداً منهم وجوههم غريبة شقراء وصفراء وأحياناً سوداء وكأنهم متعددي الملل والهوية ، قضى معهم أياماً شاقة من التدريب على السلاح والقتال اليدوي والسلاح الأبيض قبل أن ينتقل إلى مكان آخر يجهله ، شعر بأنه يعيش في غابة كثيفة لا تدخلها شمس ولا ضوء قمر كل ما فيها السواد والرائحة المقززة ، أجلسوه في خيمة صغيرة انتظاراً لقائده ليتلقى الأوامر ، ارتعش وارتبك لما دخل عليه القائد وهو يدس رأسه في جلباب أسود لمح بسرعة نجمة زرقاء سداسية موشمة على صدره ، ثارت حفيظته وكاد أن يهم بالانقضاض عليه لكنه تراجع واتخذ قراراً وفي سره يهمس لن أكون عميلا لمن اغتصب أرضنا واستباح دماءنا .
بقلم الأديب / محمود عودة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق